Wednesday, May 30, 2007

بعض من حنين


هل تتذكر يوم أخبروك أنك ذاهب الى هذا المكان الأسطوري المسمى ( مدرسة ) .. أنا أتذكر لم أكن أدري عنها الا أنها هذا المكان الغامض الذي يرتدون له زي خاص مريلة تشبه الفستان الذي يرتديه النوع الآخر ملونة باللونين الأزرق والأبيض على هيئة مربعات شديدة الصغر ، يستيقظون في الصباح ويذهبون ، ثم يعودون في الظهيرة يحملون البسكويت الذي علمت أنهم يأخذوه من المدرسة .. ستي أنا رايح المدرسة .. خالتي أنا رايح المدرسة .. أشرف أنا رايح المدرسة.. وفي خلال ساعة كان القريب والبعيد يعلم أني ( رايح المدرسة )


مريلة وقلم رصاص وكراسة واسعة الخطوط وأخرى مربعات وحقيبة صغيرة من القماش تحملهم ، كانت تلك هي مفردات عالمي الجديد .

- انت ناقص شهرين على سن المدرسة .. عشان كده هاتدخل مستمع

- يعني ايه ده ؟

- يعني عادي .. هاتحضر بس مش هتمتحن

أكثر ما أثار الضيق في نفسي هو أني باعتباري مستمع سأجلس في الصف الأخير .. تملكني الاحساس بأن الصف الأخير اهانة فكرهته بعد ذلك ، وكرهت الصف الاول كذلك ، أما الأول فعرفت سبب كرهي له من البداية ، ولكني لم أستطع تفسير كراهيتي للصف الأول الا بعد ذلك بوقت طويل .

بدأ الملل يتسرب الى نفسي بعد مضي بعض الوقت من يومي الأول ، لم أعتد على الجلوس في مكان واحد لوقت طويل ، فأمسك بالكراسة وأبدأ في تمزيق ورقة منها لأصنع منها ما تخيلته طائرة .. ينظر أحدهم ممن يجلسون بالدكة التي أمامي الى ما أفعل ، فأتحدث اليه

في سماجة :

- بص قدامك ..... يا عم بص قدامك ..

جملتي الأخيرة صحبتها اشارة بيدي الممسكة بالقلم الرصاص في اتجاه وجهه فيدخل القلم في عينه لترتفع صرخاته وعويله ، ومن سوء حظي أن الناظر كان يمر بجوار الفصل فيأتي مسرعا .. قميص وبنطلون وجاكت بدلة وطاقية بيضاء شبيكة هو ما كان يرتديه ، يقبض بيده على خرطوم أحمر طوييييل مما يستعملونه في تغليف سلوك الكهرباء في المباني .. ينظر الى الطفل الذي يولول على عينه ثم ينظر الى وجهه المليء بالاحساس بالذنب لينهال على جسدي بخرطومه العملاق .. وكانت أول علقة أنالها في حياتي .. لأدرك أني قابل للضرب كبقية الأطفال .

في عامك الدراسي الأول تضيف الى قائمة أصدقائك مفردات قليلة .. بعض الأوراق البيضاء التي تستفز طبيعتك التي لم تسترح يوما الى الفراغ وتستعيض عنه بما يطلق عليه الكبار

قذارة ، قلم الرصاص الذي يأخذك الى عوالم خيالية بلونه الرمادي المموه .

ينتهي عامي الأول كمستمع بالمدرسة , وأبدأ عامي الدراسي الثاني كتلميذ ( أصلي ومسجل ) بالصف الأول الابتدائي ..

عام كامل كلما وقفت في الطابور لترتفع أصواتنا المتسربلة بكسل النوم ما زالت بالنشيد القومي


بلادي بلادي بلادي

لكي حبي وفؤادي

ايه فؤادي ده؟..

مصر يا أم البلاد

أنت غايتي والمراد

لو النشيد ده بمعايير جودة أي نص أدبي محترم كنت هاقول ان فيه تكرار للفظين واحد فيهم يغني عن التاني ..

وعلى كل العباد

كم لنيلك من أيادي

ازاي يعني ؟؟.. ولكن الشوق الى النوم كان أكبر من تساؤلاتي الوجودية تلك فأتركها الى حين.

لدى كل منا مدرسته الأثيره التي تطبع عالمه في ذلك الوقت بذكرى أثيرة .. ( أبله حنان ) كانت ملاكي في ذلك الوقت ..

لن أنسى ابتسامتها الحميمة يوما رغم أن ملامحها تلاشت من ذاكرتي الضعيفة

- مالك زعلان ليه ؟

- مش لاقي كراستي

- طيب متزعلش

ينتهي اليوم لأجدها في اليوم التالي تحمل كراسة مرسوم على غلافها ألوان الطيف بطريقة جميلة ، قد أنسى أشياء كثيرة لكني لن أنسى أبدا تفاصيل ألوان غلاف الكراسة بمنتهى الدقة ، رأيت نفس الكراسة بيد طفل بعدها بسبعة أعوام فتعرفتها على الفور

وقاومت رغبة شديدة في داخلي بأن أختطفها منه وأحتفظ بها .

- وليد .. قول لولي أمرك يجيلي بكره

أهز رأسي في صمت متعجبا من طلبها ،

- الولد ده هادي كده ليه .. دايما ساكت .. بيسرح كتير.. هو عنده مشاكل ؟

لتنال الرد القاسي ..

- مالكيش دعوة بيه .. دي طبيعته .. ابننا مفيهوش حاجة مش طبيعية لو كنتي تقصدي كده .

طبعا إدمان أكل الأستيكة , علامة انحراف متواترة عند جميع الأطفال وليست سمة مميزة لطفل بعينه ، لن أصدق أن هناك طفل بين الخامسة والسابعة يستطيع مقاومة رائحة الأستيكة العطرية وتخيل ملمس أسنانه عليها .

البراية بالذات لم يكن بيني وبينها أي نوع من العمار ، لم تكن تكمل معي يوم واحد ثم تضيع ، في عامي الأول كمستمع كنت أجلس بالدكة الأخيرة وكان ورائي الحائط .. خشن غير جيد الطلاء ، فكنت أستعيض عن البراية به ، عن طريقه كنت أبري قلمي دائما بحكه على الحائط ، لأنال اتهامات الإهمال وعدم النظافة من جدي بطريقة شبه يومية

- مش قلتلك ميت مرة يابن الكلب متحكش القلم ف الحيطة، فين برايتك ؟

كراسة الرسم الأولى كانت ذات حجم صغير في حجم كراسة الموسيقى لو كنتم تتذكروها،ألواني الأولى كانت من الشمع ..

وكانت أولى الرسوم في كراستي رسم وضعه لي جدي بأصابعه المعروقة المرتجفة لأبي قردان .

هل تتذكرون الحلم القديم : متى أكبر ؟؟

أتذكر يومي الأول في طابور الصف الأول .. في البداية لم أعرف المكان فذهبت لأقف مع ابن عمي الذي كان معي في نفس المدرسة فنظر لي بغطرسة وقال : روح اقف مع أولات يابني ..

- أمال دي ايه ؟

- دي تالته .. انت لسه عيل .. احنا كبار المدرسة ..

وبت ليلتي يومها أحلم بثلاث أعوام بدت لي بعد المالانهاية تنقضي لأصبح من كبار المدرسة .

قليلون هم الآن من مثلت لهم الحدوتة نافذتهم الأولى لعالم الخيال اليوم .. كنت من هؤلاء القليلين، فمعظمنا استعاضوا عنها بالتليفزيون وحكاياته

- خالتي .. احكيلي حدوتة

- - خلصوا يا وليد .. حكيتهملك كلهم

- تاني .. ماليش دعوة

فلا تجد سبيلا للخلاص مني إلى النوم إلا بالبدأ في الحكي عن العنزات الثلاث والثعلب وست الحسن والنداهة وأبو شعليلة وكثير من الحكايات ، وعندما تخلصت مني بحجة أني أصبحت رجلا بدخولي المدرسة لا يصح أن يسمع الحواديت استعضت عنها بالقصص .

لا أتذكر صعوبة تذكر في تعلم القراءة ، فقد كنت أقرأ بيسر وأنا في نهاية صفي الأول ، كنت أستطيع قراءة الكتابة كبيرة الخط فقط ، الأمر الذي دفعني إلى تخيل أن مانشيتات الجرائد تكتب بلغة مختلفة أستطع قراءتها ، أما المواضيع التي تتبعها والمكتوبة بخط صغير فلها طريقة أخرى في القراءة سأتعلمها عندما أكبر قليلا .

كانت ألعابنا مختلفة في ذلك الحين ، وكانت بلدتنا لا تزرع سوى الفاكهة ، لذلك كانت مليئة بحدائق البرتقال واليوسفي والعنب والجوافة ، وكان تسلق أشجار الجوافة يشكل متعة خاصة لنا جميعا ، ومخاطرة في ذات الوقت لصعوبة تسلقها ، لذا كان الأمهر منا هو من يصعد بعيدا إلى أكثر أجزائها ارتفاعا ليحظى بالثمار البعيدة التي لا تنالها يد بسهولة ، أما البرتقال فكنا نميز أشجاره عن بعضها البعض ، فليس كل ثمار الأشجار متشابهة بالنسبة لنا ، ولذا كنا نتبارى في اكتشاف الأشجار جيدة الثمار .

أما أكبر منافساتنا فكانت تتمثل في صناعة لا أظن أطفالا غير أطفال بلدتي يجيدونها ، من رأى منكم أشجار العنب سيعلم أنها تحتاج إلى أسلاك من المعدن لشدها ، كنا نأخذ هذه الأسلاك المعدنية الصلبة والقابلة للتشكيل لنصنع منها هيكل سيارة ، ثم نجمع سلوك الكهرباء ذات الألوان الخضراء والصفراء والحمراء لنلفها حول السلوك المعدنية لتعطي لها ألوانا زاهية ، أما عجلات السيارة فكنا نأتي ب ( القازوز أو أغطية الحاجة الساقعة ) نجمع الكثير جدا منها لنثقبها ثم نأتي بأستك لنلضم الأغطية فيه ثم نربط الأستك ليشكل حلقة مغلقة نعتبرها كاوتش السيارة وكان شديد الجودة بالفعل وقابل للسير على الطرق الترابية لخشونة الأغطية واكتمال دائريتها ، الخيط المستخدم للحياكة كان يلف حول بكر بلاستيك ، كنا نأتي بهذا البكر بعد انتهاء الخيط لنلف حوله العجل المصنوع من القازوز نستخدم البكر البلاستيك هذا كجنوط للسيارة ، عجلتان أماميتان وعجلتان خلفيتان وهيكل مزين شديد الصلابة ، ثم نأتي بسلك نلف أعلاه على هيئة دائرة لتشكل اللواحة ونثبت أسفله بالعجلتان الأماميتان للهيكل لكي تصبح السيارة قابلة للحركة والتوجيه بسهولة ، تلك كانت لعبتنا الأساسية .

ما أحزنني بحق هو أن هذه اللعبة لم يعد أطفال قريتي يجيدون صنعها الآن واندثرت تقريبا ،أما لعبتي الخاصة فكانت اللعب بالطمي ( الطين يعني ) ، لم يكن كل الطين سواء عندي في ذلك الوقت ، بل منه الذي أستطيع أن أشكل ألعابي بسهولة ومنه الرديء الذي لا أفضل اللعب به ، وعرفت أن النوع الذي كنت أفضله يقترب من الصلصال في مرحلة من مراحل تخمره ( مش كده برضه يا فريدة ، مكنتش أعرف وقتها طبعا ) ، كنت أصنع من الطين عربات وعرائس وأحصنة وكثير مما يذهب إليه خيالي ، ثم أجمعه لأضعه في الشمس يجف لأضمه إلى مجموعتي .

عندما انتهت السنوات الثلاث التي تقع خلف المالانهاية بالنسبة لي أصبحت في صفي الثالث ، لأعلم أني سأذهب لأعيش في المنصورة ( المدينة ) ، تقبلت هذا الخبر في صمت ولكني لم أكن أشعر أني سأحب المدينة بسهولة

وكنت محقا الى حد بعيد ، ذهبت في صفي الرابع إلى مدرستي التي حولت إليها بالمنصورة ، لأكتشف مكانا خرافيا لم أكن أتخيل له وجودا ، فبعد أن كانت القراءة متمثلة عني في بعض قصاصات الورق أو الجرائد القديمة أو الكتيبات الملقاة هنا وهناك ، اكتشفت أنه يوجد ما يسمى بالمكتبة في المدرسة ، دخلتها برهبة صاحبتني بعد ذلك طوال عمري عند دخول أية مكتبة ، لأجد إحداهن جالسة على مكتب .

- ممكن آخد قصة أقراها ؟

- بس تكتبلها تلخيص

- حاضر

- وترسم صورة منها مع التلخيص

- حاضر

- نقيلك قصة

أمد يدي لألتقط أول قصة صادفتها يدي ( القطار الأزرق الصغير ) ، كان هذا اسمها .