نظن أن أنصار القديم لا يطمعون منا في أن نغير لهم حقائق الأشياء أو أن نسمي هذه الحقائق بغير أسمائها ، لنبلغ رضاهم ونتجنب سخطهم ، ومهما نكن حراصا على أن يرضوا ومهما نكن شديدي الكره لسخطهم ............... لن نستطيع أن نسمي حقا ما ليس بالحق ، وتاريخا ما ليس بالتاريخ ، ولن نستطيع أن نعترف بأن ما يروى من سيرة هؤلاء الشعراء الجاهليين وما يضاف إليهم من الشعر تاريخ يمكن الإطمئنان إليه أو الوثوق به ، وإنما كثرة هذا كله قصص وأساطير لا تفيد يقينا ولا ترجيحا، وإنما تبعث في النفوس ظنونا وأوهاما ............ذلك أن أخبار الجاهليين لم تصلنا من طريق تاريخية صحيحة ، وإنما وصلت إلينا من هذا الطريق التي تصل منها القصص والأساطير .. طريق الرواية والأحاديث ، طريق الفكاهة واللعب ، طريق التكلف والإنتحال .فنحن مضطرون أمام هذا كله إلى أن نحتفظ بحريتنا كاملة ، وإلى أن نقاوم ميولنا وأهوائنا وفطرتنا التي هي مستعدة للتصديق والإطمئنان في سهولة ويسر . ونحن لا نعرف نصا عربيا وصل إلينا من طريق تاريخية صحيحة يمكن أن نطمئن إليها قبل القرآن إلا طائفة من النقوش لا تثبت في الأدب شيئا ولا تنفي باطلا ......... القرآن وحده هو النص العربي القديم الذي يستطيع المؤرخ أن يطمئن إلى صحته ويعتبره مشخصا للعصر الذي تلي فيه . فأما شعر هؤلاء الشعراء وخطب هؤلاء الخطباء فلا سبيل إلى الثقة بها .......... فلكل أمة تاريخها الصحيح وتاريخها المنتحل ، ولكل أدب قسمه الصحيح وقسمه المنتحل ، ولسنا ندري لم يريد أنصار القديم أن يميزوا الأمة العربية والأدب العربي من سائر الأمم والآداب ؟ ومن الذي يستطيع أن يزعم أن الله قد وضع القوانين العامة لتخضع لها الإنسانية كلها إلا هذا الجيل الذي ينتسب إلى عدنان وقحطان .............. يجب علينا أن نلغي عقولنا لنؤمن بأن ما يروى لنا عن الشعراء والكتاب والقواد والوزراء صحيح لأنه ورد في كتاب الطبري أو في كتاب المبرد أو في سفر من أسفار الجاحظ .. نعم يجب أن نلغي عقولنا ونستحيل إلى كتب متحركة ............ إذا فما مصدر هذه التفرقة التي يصطنعونها بين القدماء والمحدثين ؟ ما لهم يؤمنون لأولئك ويشكون في هؤلاء ؟... ليس لهذه التفرقة مصدرا إلا هذه الفكرة التي تسيطر على عقول العامة في جميع الأمم وفي جميع العصور ، وهي أن القديم خير من الجديد وأن الزمان صائر إلى الشر لا إلى الخير (الإنتروبي بتقول إن أي نظام معزول .. وأكبر مثال للنظام المعزول هو الكون كله .. بيروح في إتجاه زيادة العشوائية !!! ) وأن الدهر يسير بالناس القهقرى .... زعموا أن القمحة كانت في العصور الذهبية تعدل التفاحة ........... فهل تظن أن الذين يثقون بخلف وحماد والأصمعي وأبي عمرو بن العلاء يثقون بهم لسبب غير ما قدمت لك ؟.. كان هؤلاء الناس أحسن من المعاصرين أخلاقا وأقل منهم ميلا للكذب ، كانوا أذكى منهم أفئدة ، كانوا أقوى منهم حافظة ، كانوا أثقب منهم بصائر .. لماذا؟.. لأنهم قدماء ، لأنهم كانوا يعيشوف في هذا العصر الذهبي .
في الشعر الجاهلي
طه حسين
في الشعر الجاهلي
طه حسين